الاغتيال كمعركة وعي: حرب "إسرائيل" على فكرة القوة في لبنان


بقلم: زينب يونس*

لم يكن الاعتداء الذي شهدته الضاحية الجنوبية لبيروت بالأمس مجرد اغتيال لقائد عسكري في المقاومة الإسلامية فحسب، بل هو محطة في سياق حرب باتت واضحة المعالم، وإن كانت معقدة وقاسية. وهي جزء من مسار متكامل لمعركة الوعي ضد اللبنانيين عمومًا، وبيئة المقاومة خصوصًا. معركة تهدف لضرب الثقة بفكرة القوة نفسها، وإقناع الناس بأن السلاح بات عبئًا، وأنّ مشروع إعادة بناء القدرة هو مشروع خاسر، وبأنّ المقاومة مهما فعلت لن تستطيع إيقاف نزيف الخسائر. هكذا يحاول العدو ترسيخ صورة مقاومة منهكة ومُدمِّرة للذات، وتصويرها كمشروع انتحاري تتحول فيه القوة إلى عبءٍ على أصحابها، ليُفرّغ المجتمع من قناعته بمعنى الصمود وجدواه، بعد عام متواصل من تَكبُّد مجتمع المقاومة الخسائر المادية والبشرية في جميع أنحاء لبنان.

الحقيقة هي أنّ لدى المقاومة من الواقعية ما يجعلها تدرك منذ البداية أنّ عملية التعافي وترميم القدرات ستكون عملية مُكلِّفة جدًّا. فهي تكلّف وقت، وجهد، وأعصاب، وتنظيم، وخسائر بشرية، وقرارات صعبة. ومع ذلك، هي تدرك أيضًا أن تحمُّل هذه الكلفة هو الطريق الوحيد للاستمرار، وهذا ما يسعى العدو إلى ضربه في العمق. فمنذ تأسيسها، ومع كل مراحل القوة والضعف، لم تدّعِ قيادة المقاومة يومًا أنها بعيدة عن دائرة الاستهداف، بل كانت دائمًا في المقدمة وقدّمت التضحيات العظيمة على مدى عقود.

بالنسبة للعدو، لا يهم اسم المستهدَف وسيرته بقدر ما يهم الدور الذي يؤديه. فالشهيد القائد السيد "أبو علي الطبطبائي" كان شخصية محورية في إعادة لملمة الهيكل العسكري، وترميم الشبكات، وضخّ الدم في الجسد الجريح للمقاومة، الذي تلقى ضرباتٍ قاسية لا ينكرها أحد. ومن منطق العدو، فإن استهداف هذا النوع من الأدوار هو ما يؤخر هذا المسار برمته، في محاولة لتعطيل عملية النهوض بأكملها. وهذا بالظبط ما تراهن عليه "إسرائيل".

فكما بات معلومًا، كان للسيد أبو علي الدور الأبرز في إدارة الترميم في الميدان وتحت النار، خلال أيام وأسابيع طويلة شهدت فيها قيادة المقاومة استنزافًا غير مسبوق. لذلك، اعتبر العدو أنّ استهداف العقل التنظيمي والجهادي الذي جسده السيد أبو علي، سيعيد المقاومة إلى حالة الإنهاك وسيكسِر الدائرة التي تعيد هذه القوة إلى الحياة.

لكن الأهم من اسم الشخصية المستهدَفة وكيفيّة الاستهداف - وهما أمرين عادةً ما ينشغل بهما الناس بعد الحدث مباشرةً، بالإضافة إلى نقاشات مطولة حول احتمالية ردّ المقاومة من عدمه - هو ما سيكون بعد الاغتيال. هل ستنتكس المقاومة حقًّا؟ هل سيتوقّف مسار إعادة البناء؟ هل سيهتزّ اليقين بأن التعافي ممكن؟ والأهم، هل سينجح العدو في تحويل هذا الكم من الغضب والقهر في نفوس الناس إلى شكّ وارتياب وتراجع عن متابعة الطريق؟ بين هذه التساؤلات تكمن المعركة الحقيقية. لأنّ الرهان الإسرائيلي اليوم يقوم على أن يشعر الناس بأنّ كلفة إعادة بناء القوة باتت تفوق قدرتهم على التحمُّل، وأن يتقبلوا في النهاية أن مشروع المقاومة كما عرفناه منذ تأسيسه انتهى، وأنّ الترميم، والذي هو أصلًا مجهول المعالم، لا جدوى منه، وأنّ السلاح لا فائدة له. وأنّ كل ما علينا فعله هو الكفّ عن إنكار هذه الحقيقة المُرّة وتقبُّلها لكي نستمر في هذا الواقع الجديد دون أن نُصاب بالجنون. لكن ما يغفل العدو عنه، هو أنّ هذا المجتمع، التي وُلِدت من صلبه المقاومة، لطالما تحمّل الكُلف والتضحيات لقناعته الثابتة بأنّ "إسرائيل" كيان لا يمكن التعايش معه، ولعلمه بجوهر الصراع الذي لا يمكن أن ينتهي إلا بغلبة أصحاب الحق على أهل الباطل.

منذ إعلان وقف إطلاق النار قبل نحو عام، والحرب مستمرة لكن بشكلها المختلف. وتحمّلت المقاومة، ولا زالت، كلفة الاعتداءات الإسرائيلية، ويَسقط لها شهداء بشكل يومي. وهؤلاء يرتقون وهم على قناعة تامة بأحقية قضيتهم، وعلى بصيرة عميقة ونافذة، وهم يُقبلون على الشهادة مدركين الطريق الذي يسيرون عليه بكل وعي وإيمان، مع علمهم بأنهم استشهاديون معرضون للاستهداف في أي لحظة، إلا أنّ ذلك لم يُثنِهم عن أداء تكليفهم في هذه المرحلة الصعبة والموحشة.

لكن العدو لا يستهدف هؤلاء كأفراد فقط، بل يستهدف من خلالهم قلوب الناس ليزرع فيها اليأس، ويستهدف البنية العقلية والمعنوية للمجتمع بأكمله، خصوصًا بعد سنة من انتهاء العدوان الموسع، والذي تحوّل ليصبح في سياق الحرب على الإدراك والوعي المستمرة منذ بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار من الجانب اللبناني. هذه معركة تحتاج قلوبًا تتحلى بالشجاعة، والصبر، والإيمان بأنّ الأمل الوحيد بحياة كريمة يكمن باستمرار روح المقاومة في وجه هذا العدو. لأنه عندما يدرك أنه تمكّن من زرع ثقافة العجز والهزيمة في وعي الناس، حينها فقط يكون قد انتصر.

فالعدو اليوم لم يعد يحتاج إلى أن يحتلّ الأرض فحسب، بل يكفي أن يحتلّ جهازنا العصبي. فالاحتلال الحديث يبدأ بالهيمنة على مركز الخوف في عقل المستهدَف. ما يُسهِم في صناعة تصورات قاتمة ومُشِلّة عن المستقبل، تمهيدًا لهندسة سلوكيّة تُفكّك إرادة الشعوب وقدرتها على المواجهة. إلا أنّ هذا الرهان يسقط في حالة مجتمع المقاومة، حيث يخطئ العدو بمحاولة تطبيق كل هذا على مجتمع غير قابل للتدجين؛ مجتمع عنيد صنعته المعجزات، تربّى على حافّة الهاوية ويستمر في التمسك بالحياة في بيئة العدم، وسط تخاذل عربي وإقليمي مريب من جهة، وغياب تام لدولة منفصلة عن الواقع من جهة أخرى.

لذلك كلّه، فإنّ الجوهر في إحباط أهداف العدو لا يكون إلا عبر استمرار الإيمان في مسار إعادة بناء القوة، رغم كل التضحيات العظيمة التي تُقدَّم في سبيل ذلك، ومهما كان هذا المسار بطيئًا ومؤلمًا ومكلِّفًا. ببساطة لأنّ الشعب الذي يتعرض للعدوان لا يملك ترف الخيارات. وطريقه الوحيد للنجاة هي بالصمود وعدم السماح لليأس بأن يتسلل إليه مهما اشتدت سوداوية المشهد. ففي كل بلدان العالم، المقاومة بمعناها اللغوي والمعنوي هي أن يُناضل الإنسان ضد عدوّ ينتهك حرمة بلده، بغض النظر عن حجم استطاعته أو قوته.

لذلك، فإنّ الطريق الوحيد لتخطي هذه المرحلة يكون عبر اليقين الثابت بالقوة وجدواها، والإيمان بأحقيّتها، والتشبّث بقرار المقاومة، الذي سيظل أقل كلفة من الاستسلام لعدو مستعمر إباديّ. والأهم، أن يدرك هذا الشعب أن منفذ هذا الطريق الوحيد هو صعودًا: قوة تتجدّد، تتراكم وتتطور، مهما بلغت الخسائر.

*باحثة في العلاقات الدوليّة

منشورات ذات صلة